فصل: كتاب النذر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


‏(‏الباب السادس‏)‏ ‏(‏في الكفارة‏)‏

وهي مأخوذة من الكفر بفتح الكاف، وهو الستر، ومنه سمي الزارع كافرا لستره الحب بالتراب، والبحر كافرا لستره ما فيه، والمشرك كافرا لستره الحق من الوحدانية، وغيرها، وكفر النعمة عدم شكرها لما لم يظهر لها أثر عادت كالمستورة، والمشكورة كالمشهورة، ولما كان أصل الكفارة لزوال الإثم، وستره كما في الظهار سميت كفارة، وهي في اليمين بالله تعالى لا تزيل إثما؛ لأن الحنث قد لا يكون حراما، وهو أكبر مواردها، وقد قال اللخمي والشافعية‏:‏ الحنث أربعة‏:‏ واجب إن كانت اليمين على معصية، ومستحب إن كانت على ترك مندوب، ومباح إن كانت على مباح، ويضره البقاء عليه، ومكروه إن كان المباح لا يضره البقاء عليه، وفي مسلم قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا حلف أحدكم على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير‏)‏ والمأمور به لا يكون معصية، فلا تكون الكفارة على وضعها، وقالت الحنفية‏:‏ الحنث حرام، وهي تزيل الإثم الذي بسبب مخالفة اليمين؛ لانعقاد الإجماع على تسميته حنثا، والحنث الإثم، ولقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان‏)‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 89‏)‏ المؤاخذة لا تكون إلا مع الإثم، والجواب عن الأول‏:‏ أن الحنث لفظ مشترك بين الإثم، ومخالفة اليمين‏.‏نقله الجوهري، وعن الثاني‏:‏ أن عقد اليمين لا إثم فيه بالإجماع، وإنما الخلاف في الحنث، فما دلت عليه الآية لا تقولون به، وما تقولون به لا تدل عليه الآية‏.‏

ثم النظر في أنواعها، وأحكامها، والمخاطب بها، فهذه ثلاثة فصول‏.‏

الفصل الأول‏:‏ في أنواعها

وهي أربعة‏:‏ منها ثلاثة على التخيير، وهي‏:‏ العتق، والإطعام، والكسوة، والرابع‏:‏ مرتب بعد العجز عن الثلاثة، وهو الصيام، وأصل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم‏)‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 89‏)‏‏.‏

النوع الأول‏:‏ الإطعام، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يطعم مد قمح لكل مسكين من أوسط عيش ذلك البلد، ولا تغربل الحنطة إلا أن تكون مغلوثة‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ ولا يجزئ العوض، وإن غذي، أو عشي بالخبز، والإدام‏.‏ أما الزيت، واللحم، وهو أجوده أجزأه؛ لأنه إطعام معتاد، ويعطي الفطيم من الطعام كما يعطي الكبير؛ لأن الله تعالى وصفه بالوسط، فحمل على الوسط جنسا، ومقدارا‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ في ‏(‏التنبيهات‏)‏‏:‏ المغلوثة بالثاء المثلثة، والغين المعجمة، والمهملة معاً‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف، وأشهب بمد وثلث‏.‏ قال محمد‏:‏ ولا يعطي الذرة، وهو يأكل الشعير، ولا الشعير، وهو يأكل البر، ويجزئ الشعير، وهو يأكل الذرة، فإن أطعم خمسة البر، ثم غلا السعر، ثم انتقل إلى بلد عيشهم الشعير أجزأه الشعير‏.‏ قال اللخمي‏:‏ وقيل‏:‏ يجزئه الخبز قفارا، والقفار بتقديم القاف، وفتحها، وتخفيف الفاء الذي لا إدام معه، وقال مالك أيضا‏:‏ يعتبر وسط عيش المكفر دون البلد، وحمل الأهل على الأخص، وهو ظاهر الآية، فإن أهل البلد لا يقال لهم أهل زيد‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ إلا أن يكون بخيلا يضيق على أهله، واختلف في الرضيع، والقياس عدم الإجزاء؛ لأنه ليس من أهل الطعام، ويشترط أن يكون المعطى مسلما حرا، فقيرا لا تلزم المكفر نفقته، فإن أعطى عبدا، أو كافرا، أو غنيا لم يجزئه إن علم، واختلف إذا لم يعلم، وهذا إذا فاتت، فإن كانت قائمة انتزعت، وصرفت لمستحقها، وإن ضاعت لم يضمنوها إلا أن يعلموا أنها كفارة، وغروا من أنفسهم، فإن لم يعلموا، وأكلوها، وصانوا بها أموالهم، فخلاف، والغرم أحسن لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا ضرر ولا ضرار‏)‏ وأما على القول بإجزائها، فيغرمونها للمساكين؛ لأن المسلط غير المستحق، وعدم الإجزاء في هذه الوجوه أحسن بخلاف الزكاة؛ لأنها في الذمة، والزكاة في المال، وتسقط بالضياع بعد العزل بخلاف الكفارة‏.‏

وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من عليه يمينان، فأطعم عن أحدهما مساكين أكره أن يطعمهم لليمين الأخرى، ولا يطعم عبدا، ولا ذميا، ولا أم ولد، وإن كان السيد محتاجا، وإن أعطى غنيا لم يجزه، وكذلك الكسوة، ويعطى صاحب دار، وخادم لا فضل في ثمنها عن سواهما كالزكاة، ولا يعجبني الإعطاء لقريب الذي لا تلزم نفقته، ويجزئ‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال محمد‏:‏ إنما كره إطعامهم من اليمين الثانية ليلا تختلط النية أما إذا تميزت تصح، ووافقه أبو عمران قال صاحب ‏(‏‏(‏المنتقى‏)‏‏)‏‏:‏ فإذا قلنا‏:‏ يخرج الشعير‏.‏ قال محمد‏:‏ يطعم منه قدر ما يشبع القمح، ولا يخرج السويق؛ لأنه لا يقوت غالبا‏.‏ قاله أصبغ، ويجزئ الدقيق إذا أعطى قدر ربعه، ولا يجزئه القطنية، ولا التين، وإن كان عيش قوم؛ لأنه ليس بقوت‏.‏

النوع الثاني‏:‏ الكسوة، ففي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ لا يجزئ إلا ما تحل الصلاة فيه‏:‏ ثوب للرجل، ولا تجزئ العمامة، وللمرأة درع، وخمار، وقال ‏(‏ش‏)‏، و‏(‏ح‏)‏‏:‏ أقل ما يسمى كسوة منديل، أو عمامة، أو غيرهما؛ لأن الكسوة أطلقت في الآية، ويجوز إعطاء كسوة الكبير للطفل، ووافقنا ابن حنبل، لنا‏:‏ إن الكسوة أطلقت في الآية على الكسوة الشرعية، وهي ما يجزئ فيه الصلاة؛ لأن القاعدة حمل كلام كل متكلم على عرفه، ولقوله تعالى‏:‏ ‏(‏أو كسوتهم‏)‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 90‏)‏، فأضاف الكسوة إليهم، فيعتبر حالهم‏.‏ قال اللخمي‏:‏ وليس عليه مثل كسوة نفسه، أو أهل البلد؛ لأنها أطلقت في الآية بخلاف الإطعام، وإن كسا صبيا، أو صبية كسوة مثلهما أجزأه، وإن لم تومر بالصلاة لم تعط خمارا، أو يستحب كسوة من أمر بالصلاة كما يستحب عتقه‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ يكسى المأمور بالصلاة كسوة رجل‏.‏ قال عبد الملك‏:‏ تكسى الصبية كسوة رجل، وقال ابن القاسم‏:‏ أيضا يعطى الصغير مثل الكبير، وهو استحسان‏.‏

النوع الثالث‏:‏ العتق، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يستحب عتق من صلى، وصام ليستخلص للوظائف الواجبات، ويجزئ الرضيع؛ لأنه رقبة، والأعجمي، ولا يجزئ إلا سليم مؤمن لقوله عليه السلام في السوداء‏:‏ ‏(‏أعتقها، فإنها مؤمنة‏)‏ لا يجزئ المدبر، والمكاتب، وأم الولد، والمعتق إلى أجل، وأجاز الأعرج، ورجع لعدم الإجزاء إلا أن يكون عرجا خفيفا، ولا يعجبني الخصي، ولا يجزئ من يعتق عليه، ولا من علق عتقه على شرط، ومن اشترى زوجته، فأعتقها لم تجزئه؛ لأنها تصير أم ولد بالحمل‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ إذا أعتق أعجميا لم يجبر على الإسلام قبل إسلامه، وأجزأه خلافا لأشهب؛ لأن الأعجمي ليس مضيها على دين سابق، وإنما تبع لسيده، وأجاز ابن القاسم عتق الصغير أبواه كافران إذا أراد إدخالهما في الإسلام، ولا يجزئ أقطع أصبع، أو الأذنين، أو أجذم، أو أبرص، أو أصم، وأجاز مالك عتق الأعور في الظهار، واختلف في الخصي بالإجزاء، أو عدمه‏.‏ قال صاحب ‏(‏‏(‏المنتقى‏)‏‏)‏‏:‏ قال القرويون‏:‏ إذا كان النقص يمكن معه التصرف الكامل، والتسبب غالبا أجزأه؛ لأن المقصود هو تخليص الرقيق لاكتسابه، ووظائفه الشرعية، فلا بأس بقطع الأنملة‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ والجدع، والصمم الخفيف، وذهاب الضرس، ولا يجزئ أقطع اليد، أو الرجل، والأشل، أو الأعمى، أو المقعد، أو الأخرس، أو المجنون المطبق، أو المفلوج، وقال عبد الملك‏:‏ يجزئ البرص الخفيف، ولا يجزئ المريض النازع، ولا المقطوع الإبهامين من اليدين، أو الرجلين، ويجزئ المحموم، والرمد، ولمالك في الأعرج قولان، وجوز ‏(‏ح‏)‏ أقطع اليد، والرجل خلافا لنا، و‏(‏ش‏)‏ لنا إن إطلاق الرقبة يقتضي السلامة عرفا، ومنع ابن القاسم الخصي لنقص خلقته كالأعور، وجعله أشهب كالقبيح المنظر؛ لأنه لا يتضرر به، وإذا أعتق رقبة عن واجب، ثم ظهر بها عيب رجع بأرش العيب قاله في ‏(‏العتبية‏)‏، ولا يجزئ الآبق إلا إن وجد بعد العتق سليما، وتعلم سلامته عن العيوب يوم العتق، ولا يجزئ الأصم عند مالك لخلله بالعمل خلافا لأشهب، وجوز الشافعية أقطع الأذنين، وروي عن ابن القاسم، وجوز ‏(‏ش‏)‏ الأخرس‏.‏

النوع الرابع‏:‏ الصيام، ويشترط فيه العجز عن الخصال المتقدمة، وقاله الأئمة، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إن تعذرت الخصال الثلاثة صام ثلاثة أيام، وتتابعها أفضل، وقد قرأ عبد الله بن مسعود ‏(‏متتابعات‏)‏، وقاله ‏(‏ش‏)‏، وأوجبه ‏(‏ح‏)‏، وابن حنبل، وإذا أفطر فيها قضاه، ولا يجزئ في أيام التشريق إلا الرابع فعساه يجزئ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏هذه أيام أكل، وشرب‏)‏ ولا يجزئ الصوم، وله مال غائب إلا أن يكون عليه دين مثله، ولا له دار، أو خادم، وإن قل ثمنها لظاهر الآية‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قيل‏:‏ إن كان له دين فصام ولم ينتظر أجزأه، وقال صاحب ‏(‏البيان‏)‏‏:‏ الاعتبار بحال التفكير دون حال اليمين، وحال الحنث في الإعسار، واليسار، فإن أيسر في أثناء الصوم أجزأه التمادي عليه، فإن أيسر عند الحنث، ثم أعسر، فصام، ثم أيسر‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ يعتق، والأول المشهور‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في أحكامها

وهي أربعة‏:‏ الحكم الأول‏:‏ تقديمها قبل الحنث قال في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ استحب مالك تأخيرها بعد الحنث، فإن تقدمها أجزأه‏.‏

قاعدة‏:‏ اليمين عندنا، وعند الشافعي، وابن حنبل لا يغير حكم المحلوف عليه في إباحة، ولا منع‏.‏ قال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ يغير حتى قال‏:‏ من حلف لا يصلي حرمت الصلاة عليه، أو ليفسقن وجب الفسوق عليه، ويصير ذلك كالصلاة في الدار المغصوبة واجبا من وجه حراما من وجه؛ لأن مخالفة اليمين عنده حرام، وقد تقدم مدركه، وجوابه، وبنى على ذلك منع التفكير قبل الحنث، وإن من حرم طعاما، أو غيره وجبت عليه الكفارة؛ لأنه التزم تحريمه باليمين، ولأن غير الواجب لا يجزئ عن الواجب، وقبل الحنث لا تجب الكفارة إجماعا، وقياسا على كفارة فطر رمضان وقتل الصيد، والظهار‏.‏

لنا‏:‏ أن موضوع الحلف لغة تأكيد المحلوف عليه، والتأكيد لا يغير الأصل، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يجوز تقديم التكفير بالمال لتقديم الزكاة على الحول دون الصوم كامتناع تقديم رمضان على رؤية الهلال، ووافقنا ابن حنبل‏.‏

لنا‏:‏ ما في مسلم قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا حلف أحدكم على اليمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر، وليأت الذي هو خير‏)‏ ويروى‏:‏ فليأت الذي هو خير، وليكفر، ويروى‏:‏ ثم يكفر‏.‏

قواعد‏:‏ إذا تقدم سبب الحكم دون شرطه جاز تقديمه عليه كالعفو عن القصاص قبل زهوق الروح لتقدم السبب الذي هو الجراحة، وتقديم الزكاة على الحول لتقدم ملك النصاب على الخلاف، واليمين هاهنا هو السبب، والحنث شرط، فجاز تقديم الكفارة قبل الشرط بعد السبب، ولا يجزئ قبل السبب اتفاقا حكاه في ‏(‏الإكمال‏)‏ بتقدم العفو على الجراحة، وإسقاط الشفعة قبل البيع‏.‏ وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ هل الحنث شرط، أو ركن‏؟‏ قولان، وخرج الخلاف عليه، وبهذا يظهر الجواب عن قول الشافعي في الصوم، فإن الصوم قبل الهلال تقديم على السبب، وعلى قول ‏(‏ح‏)‏ في القياس في تلك الصورة؛ لأنه يلزم التقديم على السبب بخلاف صورة النزاع، وعن قوله‏:‏ ما ليس بواجب لا يجزئ عن الواجب بتقديم الزكاة‏.‏

الثانية‏:‏ الواو لا تقتضي الترتيب على الصحيح، والفاء تقتضيه، فملاحظة الواو في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فليأت الذي هو خير، وليكفر‏)‏ لا تقتضي تأخير الكفارة عن الحنث، أو تقتضيه؛ لأنها للترتيب عند الكوفيين، وبعض الفقهاء، وبتقدير تسليمه، فالجواب عنه أن الفاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ فليكفر تقتضي التعقيب لرؤية ما هو خير من المحلوف عليه، فلا يتقدم عليه الحنث، فيكون تعقيبها في هذه الرواية معارضا لترتيب الواو في الرواية الأخرى، وينعكس هذا التقدير بعينه، فيقال‏:‏ الفاء في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فليأت‏)‏ يقتضي تعقب الحنث لرؤية ما هو خير‏.‏

الثالثة‏:‏ ترتيب الحكم على الوصف يدل على سببية ذلك الوصف لذلك الحكم نحو اقتلوا الكافر، واقطعوا السارق، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم‏)‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 89‏)‏ ولم يقل‏:‏ إذا حنثتم يقتضي أن السبب إنما هو الحلف، فهذه القواعد هي مدارك العلماء في هذه المسألة‏.‏

تفريع‏:‏ قال اللخمي‏:‏ الحالف إن كان على بر، فأربعة أقوال‏:‏ كراهية التكفير لمالك، والإجزاء له، والمنع أيضا له، ويخصص الجواز بكفارة اليمين دون الطلاق، والعتق، والصدقة، والمشي ما لم تكن آخر طلقة، أو عبد معينا، وإن كان على حنث، فالإجزاء لمالك، وإن ضرب أجلا، فثلاثة أقوال‏:‏ عدم الإجزاء في ‏(‏الكتاب‏)‏ لابن القاسم، والإجزاء له في كتاب محمد، والتفرقة بين اليمين بالله، فيجزئ، وغيره فلا يجزئ‏.‏

الحكم الثاني‏:‏ لا يجوز أن يطعم جملة الطعام لمسكين واحد، وقاله ‏(‏ش‏)‏، وابن حنبل، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ يجوز محتجا بأنه سد عشر خلات في محل، فهو كسد عشر خلات في محال؛ لأن المطلوب سد الخلة لا محلها، وجوابه‏:‏ أن النص صرح بالعدد، فيجب امتثاله، ولأن الوصي لو صرح بالعدد لم تجز مخالفته اتفاقا، فالله تعالى أولى بذلك، ولأنه يتوقع في العدد ولي تستجاب دعوته، ويتعين أن تحفظ بنيته ما لا يتوقع في الشخص الواحد، فهذه المصالح هي الموجبة لتصريح الشرع بالعدد، فلا تهمل تصريحه‏.‏

الحكم الثالث‏:‏ تلفيقها‏.‏ قال اللخمي‏:‏ اختلف قول ابن القاسم لو أطعم خمسة، وكسا خمسة، ففي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ المنع؛ لأن الله تعالى خير بين الأنواع دون أجزائها، وقاله ابن حنبل، و‏(‏ح‏)‏، وفي كتاب محمد الإجزاء قال‏:‏ وهو أحسن، وقاله الحنفي؛ لأن كل واحد من النوعين سد مسد الآخر‏.‏ قال محمد‏:‏ من عليه ثلاث كفارات، فأعتق، وكسا، وأطعم، وأشرك في الجميع بطل العتق، ويعتد من الإطعام بثلاثة، ويكمل عليها سبعة، وكذلك الكسوة، ويكفر عن يمين بما أحب فإن أحب أن يكسو عما بقي عليه، أو يطعم سبعة عشر؛ لأن الذي يحصل له ثلاثة‏.‏ قال‏:‏ وهذا غلط، بل يحتسب بثمانية عشر على القول بجواز التلفيق، وعلى المشهور يحتسب بتسعة؛ لأنه أطعم عشرة عن ثلاثة أيمان يجزيه منها ثلاثة عن كل يمين، ويبطل مسكين واحد للشركة فيه، وكذلك الكسوة فعلى الأول‏:‏ يجزيه اثنا عشر، وعن الثاني‏:‏ يخير بين إطعام أحد وعشرين، أو كسوتهم، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من كسا، وأطعم، وأعتق عن ثلاثة أيمان، ولم يعين أحدهما لأحدهما أجزأه؛ لأن النية لا تحتاج إلا عند الاختلاف؛ لأنها شرعت لتمييز مراتب العبادات عن العادات، أو مراتب العبادات في أنفسها، وأسباب الكفارات مستوية، ولا يجوز إخراج قيمة الكسوة لدلالة النص عليها كما في الزكاة‏.‏

الحكم الرابع‏:‏ إجزاء التكفير عن الغير، ففي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ المكفر عن غيره بعير إذنه، أو بغير أمره أجزأه كالتكفير على الميت، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يجزئه بإذنه دون عدم إذنه؛ لأن أذنه ينزل منزلة الوكالة في التمليك، والتكفير، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ إن لم يذكر البدل لم يجزئه، ووافقنا في الإطعام، والكسوة‏.‏

لنا‏:‏ على الفريقين‏.‏ أنه قام عنه بواجب، فوجب خروجه عن العهدة كرد الوديعة، والمغصوب عنه، ولأنه إحسان، فيكون مأمورا به لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن اله يأمر بالعدل والإحسان‏)‏ ‏(‏النحل‏:‏ 90‏)‏، وإذا كان مأمورا به يجزئ، ولا لعري الأمر عن المصلحة، وهو خلاف الأصل‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في المخاطب بالكفارة

وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ هو المسلم لعدم صحة العبادة من الكافر المكلف؛ لأنها من الواجبات على الحانث لتحقق السبب بشرطه، وفي ‏(‏التنبيهات‏)‏‏:‏ في يمين الصبي يحنث بعد البلوغ تلزمه الكفارة، وينبغي أن يتخرج‏.‏ هذا على أن الحنث سبب، أو شرط، وقال ابن حبيب‏:‏ ينعقد يمين الكافر، وتلزمه الكفارة حنث في الكفر، أو في الإسلام لقول عمر رضي الله عنه يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد، فقال عليه السلام‏:‏ أوف بنذرك‏.‏ ولأنه يستحلف عند الحاكم، فينعقد يمينه كالمسلم، والجواب عن الأول‏:‏ أن مراده أيام الجاهلية بعد الإسلام، ولم يقل، وأنا كافر، وعن الثاني‏:‏ الكفارة عبادة تفتقر إلى نية، فلا تلزمه ‏(‏كالطلاق‏)‏، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ الكافر يحلف، فيحنث بعد إسلامه لا كفارة عليه، وإذا أطعم العبد، أو كسا بإذن سيده رجوت أن تجزئه، وليس بالبين لضعف ملكه، والصوم أحب إلي، ولا يجزئه العتق، ولو أذن له السيد‏.‏ لأن الولاء لسيده، ولو حنث، وهو رقيق، وكفر بعد عتقه أجزأه‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال ابن حبيب‏:‏ إذا أذن السيد في الإطعام، والكسوة لم يجزئه الصوم، وقال أبو محمد‏:‏ يجزئه على مذهب ‏(‏المدونة‏)‏ لضعف إذن السيد قال بعض الأصحاب‏:‏ إذا أذن السيد، ثم رجع قبل التكفير، فله ذلك؛ لأن الإطعام باق على ملكه حتى يخرجه، وقيل‏:‏ إن كان العبد حنث لم يكن له الرجوع، وإلا فله‏.‏

كتاب النذر

وفي ‏(‏الإكمال‏)‏‏:‏ نذر بكسر الذال المعجمة نذارة علم بالشيء، ونذرت لله تعالى نذرا بفتحها، ومعناه‏:‏ وعدت، وقال عرفة‏:‏ النذر ما كان وعدا على شرط، فمن قال‏:‏ لله علي دينار صدقة، فليس بنذر، فإن قال‏:‏ إن شفى الله مريضي، فهو نذر، وبه قال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ ولم يجب الوفاء بغير المعلق، وإن استحبه لعدم تناول النصوص إياه قال‏:‏ وقال جماعة من الفقهاء‏:‏ الوعد المجرد يسمى نذرا لقول جميل‏:‏

فليت رجالا فيك قد نذروا دمي *** وهموا بقتلي يا بثين لقوني

وقال عنترة‏:‏

الشاتمي عرضي، ولم أشتمهما *** والناذرين دمي، ولم ألقاهما

ويتمهد، فقه الكتاب ببيان الملتزم، والملتزم، وصيغة الالتزام‏.‏ فهذه ثلاثة أبواب‏.‏

الباب الأول ‏(‏في الملتزم‏)‏

وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ هو المكلف المسلم؛ لأن الصبي لا يتوجه عليه الوجوب، والكافر لا تتوجه عليه العبادات أعني فعلها‏.‏

الباب الثاني ‏(‏في الملتزم‏)‏

وهو إما فعل، أو ترك، وكلاهما إما مندوب، فيلزم، أو واجب فهو على أصله لم يتغير بالنذر، أو مكروه، أو محرم، فهو على أصله لقوله عليه السلام في البخاري‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه‏)‏ فخصص الوجوب بالطاعة‏.‏

فتأثيره عندنا خاص بالمندوب كيف كان من جنسه واجبا أم لا، وأوجب ابن حنبل في نذر المباح كفارة يمين؛ لأنها عنده واجبة في نذر المعصية، فقاس المباح بطريق الأولى، ولأن امرأة قالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أوف بنذرك‏)‏ إلا أنه خير بين فعل المباح، وبين الكفارة، وكذلك خير في نذر اللجاج ولم بشترط كون المنذور قربة، ولا من جنسه واجب، والجواب عن الأول‏:‏ منع الحكم في الأصل، وما ورد في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه، وليكفر كفارة يمين‏)‏ فالمراد الإتيان بما يزيل الإثم من حيث الجملة؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ واللات، والعزى، فليقل لا إله إلا الله، ومن قال‏:‏ تعال أقامرك فيصدق‏)‏ وعن الثاني‏:‏ إظهار المسرة له عليه السلام به مندوب، وقال المتقدمون من الشافعية‏:‏ لا يلزم بالنذر إلا مندوب من جنسه واجب احترازا من تجديد الوضوء؛ لأنه ليس في الشرع وضوء واجب من غير حدث، ونحو عيادة المرضى، وزيارة القادم، وإفضاء السلام، وقال متأخروهم‏:‏ المندوبات كلها تلزم بالنذر إلا ما يفضي إلى ترك رخصة احترازا من نذر الصوم، والإتمام في السفر، أو القيام في الصلاة للمريض، والمباحات التي يتصور وقوعها قربات كالأكل ليقوى على العبادة، وكذلك النوم‏.‏ لنا‏:‏ الحديث السابق، وقال الحنفية‏:‏ لا بد أن يكون من جنسه قربة واجبة كمتقدمي الشافعية، ولم يشترطوا التعليق على الشرط خلافا لـ ‏(‏ش‏)‏، وقالوا‏:‏ المعلق إن كان شرطه قربة وجب الوفاء به، أو مباحا، أو معصية خير بينه وبين كفارة يمين‏.‏ لنا‏:‏ الحديث السابق، وهو يقتضي وجوب الطاعة على الإطلاق، وصفة العبادات كإطاعة الركوع، والمباح الذي يمكن التقرب به كالنوم لقيام الليل‏.‏

فرع، فإن التزم تحريم ما ليس بحرام كالطعام، والشراب قال في ‏(‏الجلاب‏)‏‏:‏ هو حلال، ولا كفارة عليه إلا أن يكون ذلك في أمة، وينوي به عتقها فتعتق، وقال ‏(‏ح‏)‏، وابن حنبل‏:‏ كفارة يمين في المأكول، والمشروب دون الملبوس لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏)‏ ‏(‏التحريم‏:‏ 1‏)‏ قد حرم عسلا، فأمره لله تعالى بالكفارة، وجوابه‏:‏ ما روى ابن وهب أنه عليه السلام إنما حرم أم ولده، وقياسا على الملبوس‏.‏

‏(‏تفريع‏)‏‏:‏ وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ إن التزم مطلق الصوم فيوم إلا أن ينوي أكثر، أو مطلق الصلاة فركعتان، أو مطلق الصدقة فأقل ما يتصدق به، أو الاعتكاف فليلة ويوم، أو الصلاة قاعدا مع القدرة على القيام قعد، وفيه إشكال من جهة أن القعود ليس بقربة، أو اعتكاف ليلة‏.‏ قال مالك‏:‏ يلزمه يوم وليلة؛ لأن العرب تعبر عن اليوم بالليلة لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال‏)‏ ولم يقل بستة، وناذر صوم نصف يوم، أو بعض ركعة يتمهما كالمطلق نصف طلقة، والمعتبر في النذور النية، فإن عدمت، فالعرف، فإن كان للفظ مقتضيان، ففي حمله على الأول، أو على الأكثر قولان نظرا إلى أن الأصل براة الذمة، أو إلى الأحوط، ومتى التزم ما ليس في ملكه، فالمشهور لزومه إذا ملكه، وفي ‏(‏المنتقى‏)‏‏:‏ إذا لم يعين لنذره مخرجا، فكفارة يمين، فإن قال‏:‏ علي نذران، فكفارتان، والفرق بينه وبين اليمين أن موضوع اليمين للتأكيد، والنذر للالتزام، فلذلك اتحدت الأيمان، وتعددت النذور، وستأتي زيادة تقرير‏.‏

وفي ‏(‏البيان‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ علي نذر لا كفارة له إلا الوفاء به‏:‏ عليه كفارة يمين؛ لأن الوفاء بهذا النذر المطلق‏.‏

ثم أنواع القربات التي يتسع الكلام فيها سبعة‏:‏ النوع الأول‏:‏ النسك، ففي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إن كلمت فلانا فعلي المشي، فكلمه لزمه المشي في حج، أو عمرة، وقاله ‏(‏ش‏)‏، وابن حنبل، والمدرك إما لأن الحج، والعمرة العادة تلزم أحدهما، وإما لأن دخول مكة لا يتأتى إلا بالإحرام بأحدهما، فكان اللفظ دالا عليهما بالالتزام‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ وإحرامه من الميقاة لا من موضعه‏.‏ قال اللخمي‏:‏ الناذر المشي إن نوى حجا، أو عمرة، أو طوافا، أو صلاة لزمه، ويدخل محرما إذا نوى حجا، أو عمرة، وإن نوى طوافا يخرج دخوله محرما على الخلاف في جواز دخوله مكة حلالا، وناذر السعي وحده يختلف فيه هل يسقط نذره، أو يأتي بعمرة‏؟‏ لأن السعي ليس بقربة بانفراده، فيصحح نذره بحسب الإمكان، وإن نوى الوصول خاصة معتقدا أن ذلك قربة، فلا شيء عليه، أو معتقدا عدم القربة فتكون معصية، فيستحب له أن يأتي بذلك المشي في عمرة، أو طواف ليكفر عنه، فإن التقرب إلى الله تعالى بما ليس بقربة، أو بقربة بدون شرطها كصلاة الحائض، أو جزئها كصيام نصف يوم معصية؛ لأنه سوء أدب مع الله تعالى، وإنما صححنا نذره بالتكميل؛ لأن القاعدة أن يصرف العاقل متى دار بين الإلغاء، والاعتبار، وكان حمله على الاعتبار أولى صونا للإنسان عن خطط الفساد، وإن لم يكن له نية، وكان من أهل المدينة مشى في حج، أو عمرة؛ لأنها عاداتهم، فقام مقام الصريح، أو من أهل المغرب مشى في حج؛ لأنه عادتهم، وعلى أحد قولي مالك في أن اللفظ يحمل عند عدم النية على اللغة دون العرف يسقط نذره؛ لأن المشي وحده ليس بقربه‏.‏

فرع‏:‏ في ‏(‏البيان‏)‏‏:‏ إذا نذرت المرأة المشي إلى بيت الله تعالى لزوجها منعها كما يمنعها التطوع؛ لأنها متعدية عليه، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ علي المشي، ولم يقل إلى بيت الله إن نوى مكة مشى، وإلا فلا؛ لأنه متردد، فلا تتعين القربة إلا بالنية، وكذلك السفر، أو الانطلاق‏.‏ قال اللخمي‏:‏ اختلف قول ابن القاسم في الإيجاب بالركوب، وأوجب أشهب بهذه كلها الحج، أو العمرة، والقائل‏:‏ إلى بيت الله هو الكعبة إلا أن ينوي غيره لاشتهاره، ولا يلزم المشي إلا من قال‏:‏ علي المشي إلى مكة، أو المسجد الحرام، أو الكعبة، أو الحجر، أو الركن بخلاف الصفا، والمروة، ومنى، وذي طوى، والحرام، وعرفة، ومزدلفة، وغيرها من جبال الحرم، فلا يلزمه ذلك، وقال ابن حبيب‏:‏ إن نذر المشي إلى بقعة من الحرم لزمه، وإلا فلا‏.‏ قال اللخمي‏:‏ وإن قال‏:‏ علي ركوب إلى مكة، فألزمه مالك مرة، ولم يلزمه أخرى، وإن قال‏:‏ علي الذهاب، أو السير، أو الانطلاق إلى مكة لم يلزمه، وألزمه أشهب في ذلك كله الحج، أو العمرة، وقال ابن القاسم‏:‏ أيضا في المشي إلى مكة لا شيء عليه قال‏:‏ ولا فرق بين هذه الألفاظ لدلالة جميعها على الوصول إلى مكة، فإن حمل قوله على العادة، وتأخر الوصول، وهو في الحج، أو العمرة لزمه ذلك في جميعها، وإلا لم يلزمه شيء، وقال أصبغ‏:‏ يلزمه في ذلك كل ما هو في داخل القرية كالصفا، والمروة، والأبطح، والحجون وقعيقعان، وأبي قبيس، فإنه لا وصول للبلد إلا بالإحرام، فاعتبر الدلالة المعنوية دون العادية، وقال ابن حبيب‏:‏ تلزمه إذا سمى الحرم، أو ما هو فيه لدلالته على القرية دون ما خرج عنها إلا عرفات؛ لأنه من مشاعر الحج، وألزمه ابن القاسم بالقرية دون الصفا، والمروة، وهما داخلان فيها، ومن المشاعر، وألزمه بالمسجد دون المقام، وهو داخل المسجد قال‏:‏ وهو مشكل؛ لأن اللغة لا تقتضي ذلك، واستلزام القرية مشترك بينهما‏.‏

واعلم أن الظاهر أن ابن القاسم وجد في هذه الألفاظ عرفا في زمانه، فاعتبره، ثم زال، وبقيت الفتوى‏.‏ قال اللخمي‏:‏ وناذر المشي لا يجزئه الركوب؛ لأنه أفضل، وناذر الركوب لا يجزئه المشي إن قصد نفقة ماله في الركوب، وإلا أجزأ، وإن قال‏:‏ علي المشي، أو الذهاب، أو الانطلاق يخير بين المشي، والركوب‏.‏

فرع‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ علي المشي إلى بيت الله إلا أن يبدو لي، أو أرى خيرا من ذلك يلزمه المشي، وإن قال‏:‏ إن شاء فلان، فلا يلزمه إلا أن يشاء فلان‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ إلا أن يتضمن نذره فعلا نحو‏:‏ إن كلمت زيدا، فينفعه ذلك، وكذلك الطلاق، والعتاق قال القاضي إسماعيل‏:‏ لا ينبغي الخلاف في عدم اللزوم؛ لأنه معلق على مشيئة آدمي، وأنكر ذلك في ‏(‏المبسوط‏)‏، وكذلك عبد الحق في ‏(‏تهذيب الطالب‏)‏‏.‏

‏(‏تمهيد‏)‏‏:‏ أعلم أن كلام ‏(‏الكتاب‏)‏، وابن يونس في غاية الخفاء على المحصلين، فضلا على المبتئدين، ومثل هذه الحجة العمياء، والداهية، والدهياء قول صاحب ‏(‏الجلاب‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ إن كلمت فلانا فعلي الحج إلى بيت الله إن شاء الله، فكلمه لم يلزمه شيء إن أعاد الاستثناء على كلام زيد، وإن أعاده على النذر لم يسقط عنه شيء، فإعادته على كلام زيد إما باعتبار وجوده، أو باعتبار عدمه، والأول لا يسقط النذر؛ لأنه لو لم ينطق بالمشيئة لكانت معلومة، فإنه من المحال أن يكلم زيدا إلا بالمشيئة، والمعلوم في حكم إذا صرح به لا يغير ذلك الحكم، والثاني معناه‏:‏ يلزمني الحج على تقدير الكلام إن أراد الله تعالى عدمه، وإن أراد الله تعالى عدمه لا يقع بسبب عدم اللزوم، والتقدير وقوعه، فيتناقض قوله، والتقدير‏:‏ أن كلامه لا تناقض فيه، وكشف الغطاء عن الحق أن يقال‏:‏ الأسباب الشرعية قسمان‏:‏ منها ما وضعه الله تعالى في أصل شرعه، ولم يكله إلى خيرة خلقه كالزوال للظهر، ورؤية الهلال للصوم، ومنها ما فوضه لخيرة عباده، فإن شاءوا جعلوه سببا، وإلا فلا، وهو شروط التعليق، فمن شاء جعل دخول الدار سببا لطلاق زوجته بتعليقه عليه، ومن لم يشأ لم يكن سببا في حقه، وكذلك سائر النذور، وغيرها، وكل سبب مفوض إلى العبد لا يصير سببا إلا أذا جزم بسببيته، فمعنى عود المشيئة على كلام زيد أي لا أجزم يجعله سببا إلا إن شاء الله تعالى جعله سببا، وإلا فلا، والله تعالى لم يشأ؛ لأنه لو شاء لجزم العبد، فجعله سببا؛ لأنه لا طريق لسببيته إلا ذلك، وإذا لم يكن كلام زيد سببا لا يلزم الحج به أما إذا أعاده على الحج، فمعناه إني جزمت بجعله سببا، فإن شاء الله تعالى لزمني الحج به على تقدير الكلام‏.‏ قلنا‏:‏ له قد شاء الله بالضرورة‏.‏ لأنا نعلم أن من أراده الله تعالى لسبب حكم، فقد أراده بذلك الحكم، فمن أراده الله تعالى بإصدار الصيغة المعتبرة في البيع، فقد أراده بين نقل الملك بالضرورة، ومن أراده بالسرقة المعتبرة، فقد أراده باستحقاق القطع، وكذلك سائر الأسباب، والأحكام، وقد صحت، فجعل الكلام سببا للحج، فنجزم نحن بأن الله تعالى أرادك بحكم هذا السبب، فيلزمك الحج، ومعنى قوله في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إلا أن يبدو لي أي جزمت بالالتزام، وإن بدا لي نقضته، وهو إذا جزم فلا خيرة له بعد ذلك، فإن الالتزام سبب، وليس للمكلف خيرة في إبطال الأسباب الشرعية، ولا في اقتطاع مسبباتها، وبهذا يظهر الفرق بين هذا، وبين قوله‏:‏ علي الحج إن شاء فلان؛ لأنه لم يجزم بالسبب الذي هو الالتزام، بل علق ذلك على شرط، ولم يعلم وجوده إلى الآن، فإذا وجد انعقد السبب، فلو فرضناه جزم باللزوم، وقال‏:‏ إن شاء فلان لم يلزمني شيء لم ينفعه، وإلى هذا المنهاج أشار ابن يونس، فهذه قواعد مجمع عليها عقلا، ونقلا يخرج عليها كلامهم رحمهم الله فعلى هذا إذا قال‏:‏ إن دخلت الدار، فأنت طالق، أو عبدي حر إن شاء الله، وإن شاء زيد أمكن انتفاعه بهذا الاستثناء، وعدم انتفاعه، ومعنى قول مالك، وأصحابه‏:‏ إن المشيئة لا تنفع في الطلاق، ونحوه أي في حل السبب الملزم كما يحل اليمين، فلا تلزم الكفارة أما إذا علق عليها سببيه المسبب، فيتعين الجزم بنفعها، وأن لا يختلف فيه‏.‏ غير أن أبا الطاهر قال‏:‏ إن المشيئة إن عادت إلى الفعل دون اليمين، فقولان‏:‏ المشهور إنها لا تنفع، وهو يتجه إذا أعادها على الفعل باعتبار عدمه حتى يكون علق على كلام زيد على تقدير إرادة الله تعالى لعدمه، فيكون محالا، فيجري فيه الخلاف في التعليق على المستحيل أما على ما قررته، فلا يتأتى الخلاف‏.‏ ولهذا قال صاحب ‏(‏المقدمات‏)‏‏:‏ وعلى ابن القاسم في قوله‏:‏ إن صرف الاستثناء إلى الفعل لا ينفع، درك عظيم؛ لأنه علق على صفة مستحيلة، وهو فعل ما لا يشاءه الله تعالى قال‏:‏ والأصح من جهة النظر خلافه، وإذا أحطت بهذه المدارك أمكنك صرف كل فتيا إلى مدرك يليق بها، ولا يشكل عليك بعد ذلك شيء‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏‏:‏ قول الأصحاب‏:‏ التعليق على مشيئة الله تعالى تعليق على مشيئة من لا نعلم مشئيته بخلاف التعليق على مشيئة آدمي هو على العكس؛ لأن متعلق مشيئة الله تعالى إما الوجود، وإما العدم، والواقع أحدهما بالضرورة، وهو مراد الله تعالى بالضرورة، فمشيئة الله تعالى معلومة بالضرورة، أما مشيئة غيره فإنها تعلم بإخباره، وهي لا تفيد العلم، بل الظن فعلم أن مشيئة الله تعالى معلومة، ومشيئة غيره غير معلومة‏.‏

فرع‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ ناذر المشي حافيا ينتعل، ويستحب له الهدي؛ لأنه عليه السلام رأى امرأة تمشي حافية ناشرة رأسها، فاستر منها بيده، وقال‏:‏ ما شأنها، فقالوا‏:‏ نذرت أن تحج حافية ناشرة رأسها، فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏فلتتخمر ولتنتعل، ولتمش‏)‏ ونظر عليه السلام إلى رجل يمشي إلى الكعبة القهقرى، فقال‏:‏ ‏(‏مره فليمش لوجهه‏)‏ وإن قال‏:‏ إن فعلت كذا، وكذا حملت فلانا إلى البيت، وأراد التعب بحمله حج ماشيا، وأهدى، وليس عليه إحجاج الرجل، وإلا حج راكبا، وأحج الرجل معه، ولا هدي، فإن امتنع الرجل تركه، ولا شيء عليه، وأنه نوى إحجاج الرجل من ماله، فليس عليه إلا إحجاجه، فإن امتنع سقط النذر، والناذر حمل عمود، أو غيره إلى مكة طلب المشقة يحج ما شاء غير حامل شيئا، ويهدي‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ إذا أراد التعب بحمل الرجل قال بعض شيوخنا‏:‏ يستحب الهدي كهدي ناذر الحفا، وإذا لم يرد حمله قال بعض فقهائنا‏:‏ إنما يلزمه الحج بنفسه إذا نوى ذلك‏.‏

ثم إذا تعين المشي، فالكلام في مبدأه، ومنتهاه، والعجز عنه، فهذه ثلاثة أطراف‏:‏ الطرف الأول‏:‏ المبدأ، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يمشي الحالف من مكان حلفه؛ لأنه موضع السبب إلا أن ينوي غيره، وإن قال‏:‏ إن كلمت فلانا، فأنا محرم بحجة، أو عمرة، فكلمه في غير أشهر الحج لم يلزمه الحج إلا إلى أشهر الحج إلا أن ينوي من حيث حنثه، وإن كان في غير أشهر الحج، ويحرم بالعمرة وقت حنثه إلا أن تبعد الرفقة، ويخاف، فيؤخرها حتى يجد، فيحرم، ويحرم بالحج، والعمرة من موضعه لا من ميقاته إلا أن ينوي وقد تقدم في الحج أن الميقاة المكاني أخف من الزماني، وتقدم تقريره، فلذلك قال‏:‏ يؤخر إلى الأشهر دون الميقاة المكاني، والقائل‏:‏ أنا محرم يوم أفعل كذا، ففعل، فهو محرم في ذلك اليوم توفية بمقتضى الصيغة‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال محمد‏:‏ لو حلف بمصر، وحنث بالمدينة، فليرجع إلى مصر حتى يمشي‏.‏ قال عبد الملك‏:‏ إذا حنث ببلد الحلف، فليمش من تلك المدينة من حيث شاء‏.‏

قال محمد‏:‏ وإن حنث بغير البلد الذي حلف فيه، وهو ممن لا يقدر على المشي، فليرجع إلى ذلك البلد، ثم يمشي فيه ما قدر، ثم يركب، ويهدي‏.‏ قال أصبغ‏:‏ إن كان قريبا، وليس عليه فيه مضرة رجع، وإلا مشى من حيث حنث، وأهدى‏.‏ قال محمد‏:‏ قال مالك‏:‏ وله أن يمشي في طريق أخصر من طريق‏.‏ قال اللخمي‏:‏ إن انتقل إلى بلد آخر مثله في المسافة مشى منه؛ لأن المقصود عدد الخطى في القربة، فإن انتقل إلى أقرب منه باليسير، فقيل‏:‏ يجزئه، وقال أبو الفرج‏:‏ يهدي هديا، ويجزئه، وإن كثر البعد لم يجزه، وإذا قال‏:‏ علي المشي إلى مكة، وهو بها خرج إلى الحل، وأتى بعمرة؛ لأن المفهوم من قوله‏:‏ أن يأتي إليها من غيرها، وأقل ذلك أوائل الحل، والقائل‏:‏ علي المشي إلى المسجد، وهو بمكة مشى إلى المسجد من موضعه، وقال مرة يخرج إلى الحل، وإن قال‏:‏ وهو في المسجد علي المشي إلى مكة خرج إلى الحل، ودخل بعمرة، وقال سحنون‏:‏ إذا قال‏:‏ فأنا محرم، فهو محرم بنفس الحنث، وهو الحج، والعمرة، وإن قال‏:‏ أنا أحرم لم ينعقد عليه بنفس الحنث حتى يحرم، وقال‏:‏ عليه أن يحرم، وإن لم يجد صحبة، والقائل‏:‏ أنا محرم يوم أكلمه، ولا يكون محرما بمضي ذلك اليوم، ويجري فيه الخلاف بين مالك، وسحنون، وقال ابن يونس‏:‏ الحالف بصقلية، قال أبو عمران‏:‏ يلزمه المشي من أقرب البر الذي يليه من أفريقية، وهو بين؛ لأنه العادة في حلفهم، وقيل‏:‏ من الإسكندرية؛ لأنهم إنما يأتون أفريقية للتجر، وقوله‏:‏ لا يحرم حتى تدخل أشهر الحج محمول على ما إذا كان يصل، أما البلد البعيد، فيحرم في الوقت الذي يصل فيه، وقال ابن القابسي يخرج من بلده غير محرم، ويحرم حيث أدركته أشهر الحج، والأول لأبي محمد، وهو أولى؛ لأنه المفهوم من قوله‏:‏ إن كلمت فلانا، فأنا محرم بحجة‏.‏

الطرف الثاني‏:‏ نهاية المشي، ففي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يمشي في العمرة حتى يسعى، وإن ركب بعد السعي، فلا شيء عليه، وفي الحج إلى طواف الإفاضة، وقاله ‏(‏ش‏)‏ لفراغ أركان النسكين، وله الركوب في رجوعه من مكة إلى منى، وفي رمي الجمار بمنى، وإن آخر طواف الإفاضة، فلا يركب في الرمي لبقاء ركن الحج وله الركوب في حوائجه كما يركب في المدينة، فإن المشي إنما هو قربة في آخر العبادة، وإذا ذكر حاجة نسيها ركب في رجوعه لها، ويركب في المناهل‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قيل لابن القاسم‏:‏ لم لا ينتهي مشيه إذا انتهى إلى البيت، وهو إنما ألزم نفسه المشي إلى البيت قال‏:‏ لأن الله تعالى يقول في الهدي‏:‏ ‏(‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏)‏ ‏(‏الحج‏:‏ 33‏)‏ ومحلها في الحج‏:‏ منى‏.‏

الطرف الثالث‏:‏ في العجز عن المشي، ففي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يركب فيما عجز، فإذا استراح نزل، ثم يمشي ثانيا فيما ركب فقط، ويهدي لتفريق المشي‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ينحر بدنة، فإن عجز عما بقي عليه من المشي ثانيا لم يعد ثالثة، وأهدى، ولم علم في الثانية عجزه عن المشي قعد، وأجزأه الهدي، فإن علم عجزه ابتداء، فإن كان شيخا زمنا، أو امرأة ضعيفة، أو مريضا أيس من البرء خرج راكبا، ومشى، ولو نصف ميل، وأجزأه مع الهدي بعد ذلك لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا امرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏ وإذا رجا المريض قدرة على المشي انتظرها، وإذا مشى حجه كله، وركب في الإفاضة، أو ركب الأميال لمرض لم يعد ثانية، وأهدى، ولو مشى السعي فقط قضى مشيه قابلا فيما ركبه‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ لأنه ركوب كثير، ولأن ركوبه في مواضع الحج أسهل ممن ركب في الطريق اليوم، واليومين‏.‏ قال مالك‏:‏ ويهدي أحب لي من غير إيجاب، ولم ير عليه الهدي مثل من عجز في الطريق عجزا يوجب الرجوع؛ لأنه بلغ مكة، وطاف، وتم مشيه عند بعض الناس، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يرى عليه الهدي، والرجل، والمرأة سواء، وله جعل مشيه الثاني في غير ما مشي فيه أولا إن أبهم نذره، وإلا ففي مثل الأول لتعيينه، ولا يجعل الأول ولا الثاني في فريضة‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال محمد‏:‏ إذا مشى الطريق كله في عوده، فلا هدي عليه؛ لأنه لم يفرق مشيه‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ من ركب ليقص الطريق من غير عذر أهدى بخلاف العذر‏.‏ قال أبو الطاهر‏:‏ وظاهر المذهب لا فرق بين العذر، وغيره، وقد نص عليه في كتاب محمد، وليس هذا مثل صيام التتابع؛ لأنه لو لم يصل المشي المتتابع أجزأه، والقاعدة‏:‏ إن العبادة تلزم بالشروع كما تلزم بالنذر، وإنما جعله يمشي ثانيا في حج، أو عمرة إذا كانت يمينه مطلقة؛ لأن رجوعه لنذره لا لما شرع فيه‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ والهدي هاهنا بدنة، فإن لم يجد، فبقرة، فإن لم يجد، فشاة، فإن لم يجد، فصيام عشرة أيام متى شاء، وتجزئ شاة مع القدرة على الثلاثة‏.‏ قال اللخمي‏:‏ أما إذا كان المشي نصف الطريق، فأكثر‏.‏ قال عبد الملك‏:‏ يمشي الطريق كله، ونحوه لمالك، وإن كان نذره من مكان بعيد نحو مصر، فلمالك في رجوعه قولان، قال‏:‏ وعدم العود أحسن لعدم المشقة كما أنه لو كان من المغرب لم يعد بحال، وهذا كله في المضمون أما عام تعينه، فلا يقضي، ولو مرضه كله، وإن حضر خروج الحاج، وهو في القرب مثل المدينة، وهو مريض خرج راكبا، وإن كان مضمونا أخر لعام آخر، ولو نوى المريض أن يمشي قدرته لم يكن عليه هدي، وكذلك الشاب الضعيف القوة، والمرأة الشابة التي مشيها عورة تمشي الأميال عزلة عن الناس، ثم تركب، وتهدي، وقال ابن حبيب‏:‏ له جعل المشي الثاني في حج إذا نوى الأول في عمرة؛ لاندراج العمرة في الحج‏.‏

فرع‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ الناذر من المشي ما لا يبلغه عمره يمشي ما قدر عليه، ويتقرب إلى الله بما قدر عليه من خير له لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فاتقوا الله ما استطعتم‏)‏ ‏(‏التغابن‏:‏ 16‏)‏ قال ابن يونس‏:‏ قال بعض فقهائنا‏:‏ إن عجز هذا، وركب لا يرجع ثانية لأجل ركوبه، وعليه الهدي لذلك؛ لأنه يرجع، فيما عليه من النذر‏.‏ قال أبو محمد‏:‏ فله أن يجعل الثاني في حج، أو عمرة لعله يريد إن لم يركب أولا في حجته في المناسك، ولو ركب بمنى، وعرفة، ومزدلفة في حجه الأول كيف ينبغي أن يجعل الثانية في عمرة، وهو لا يصل أن يمشي ما ركب، وعن سحنون‏:‏ لا يجعل الثانية في عمرة؛ لأنها أقصر من عمل الحج يريد‏:‏ إن كان مشيه في غير المناسك‏.‏

فرع‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا نوى بحجه فرضه، ونذره أجزأه لنذره، وقضى فرضه، أو قارنا العمرة لنذره، والحج لفرضه لم يجزه من الفرض، وعليه دم القران، وقال اللخمي‏:‏ ولمالك في القارن يجزئ في النذر، ويقضي الفرض لقوته، وله أيضا لا يجزئ عنهما للتشريك قال‏:‏ وأرى أن يجزئ عنهما؛ لأن القران لا يحل بفريضة الإسلام، وكل ما جاز تطوعا جاز وفاء النذر به‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال محمد‏:‏ في المفرد هذا إذا لم يكن ينوي بنذره حجا، ولا عمرة، وأما إذا نوى، فلا يجزئ عنهما؛ لأنه لو مشى بحج لنذره، ففاته لم تجزئه عمرة التحلل عن مشيه، فكذلك هاهنا؛ لأنه يصير لكل واحد منهما نصف حجة، وهما حجتان أما إذا لم ينو، فهو الذي قال فيه‏:‏ يجزئه لنذره، وقال عبد الملك‏:‏ يعيدهما جميعا استحسانا، وقال المغيرة‏:‏ يجزئه عن الفريضة؛ لأنها أولى باستحقاق العمل، ويعيد النذر‏.‏ قال محمد‏:‏ فلو أحرم بفريضة الحج، ونوى مشيها لم يلزمه ذلك إلا بنذر قال‏:‏ ويلزم ذلك في المحرم بنافلة ينوي قيامها، فله صلاتها جالسا، وكذلك لو نوى قراءة سورة طويلة‏.‏

النوع الثاني‏:‏ إتيان المساجد، ففي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ علي إتيان المدينة، أو بيت المقدس، أو المشي إليهما، فلا يأتيهما حتى ينوي الصلاة في مسجديهما، أو ينوي فيهما، أو يسميهما لتعيين القربة، أو ما يلازمها، وإن لم ينو الصلاة فيهما أتاهما راكبا، ولا هدي عليه، ولو نذر الصلاة في غيرهما من المساجد صلى بموضعه، وقاله ‏(‏ش‏)‏، وابن حنبل‏.‏ قال اللخمي‏:‏ قال ابن وهب‏:‏ عليه أن يأتي مسجد المقدس، والمدينة ماشيا، وقال محمد‏:‏ إن قرب مشى، وقال القاضي إسماعيل‏:‏ ناذر الصلاة في المسجد الحرام لا يلزمه المشي قال‏:‏ والمشي في ذلك كله أحسن؛ لأن المشي في القرب قربة، ومقتضى أصل مالك يأتي المكي المدينة؛ لأنها أفضل، فإتيانها من مكة قربة بخلاف الإتيان من المدينة إليها، وقدم ‏(‏ش‏)‏، وابن حنبل‏:‏ المسجد الحرام عليها، فإن قال‏:‏ علي المشي، ولم يذكر مسجدا، فلا شيء عليه عند ابن القاسم، وعند أشهب عليه المشي إلى مكة‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ يمشي إلى غير الثلاثة إن كان قريبا كالأميال الثلاثة اليسيرة ماشيا، ويصلي فيه‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ إن كان بموضعه مسجد جمعة لزمه المشي إليه، وقاله مالك، وبه أفتى ابن عباس في مسجد قباء، وهو من المدينة على ثلاثة أميال، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ الناذر المكي، أو المدني الصلاة في بيت المقدس يصلي في مسجد موضعه؛ لأنه أفضل، والمقدسي يمشي إليهما، والمدني إلى مكة، والمكي إلى المدينة للخروج من الخلاف، وأصل هذا الباب قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد‏)‏ فذكر مسجده عليه السلام، ومسجد إيليا، والمسجد الحرام، فاقتضى ذلك عدم لزوم المشي إلى غيرها، فإن كل ما وجب المشي إليه وجب أعمال الركاب إليه، وإلا فلا‏.‏

قاعدة‏:‏ النذر عندنا لا يؤثر إلا في مندوب، فما لا رجحان في فعله في نظر الشرع لا يؤثر فيه، وسائر المساجد مستوية من جهة أنها بيوت التقرب إلى الله تعالى بالصلاة، فلا يجب الإتيان إلى شيء منها لعدم الرجحان، ويختلج في نفس الفقيه أن المساجد أفضل من غيرها إجماعا، وبعضها أفضل من بعض باعتبار كثرة طاعة الله فيها إما لقدم هجرته، أو لكثرة جماعته، أو لغير ذلك من أسباب التفضيل، ومقتضى ذلك وجوب الصلاة فيها بالنذر لأجل الرجحان في نظر الشرع، ويندفع هذا الإشكال بأن القاعدة الشرعية‏:‏ أن الفعل قد يكون راجحا في نفسه، ولا يكون ضمه لغيره، أو ضم غيره له راجحا، وقد يكون، فمن الأول‏:‏ الصلاة، والحج راجحان، وليس ضمهما راجحا في نظر الشرع، وكذلك الصوم، والزكاة، بل قد يكون الفعلين راحجين، وضمهما مرجوح كالصوم، ووقوف عرفة، والتنقل وصلاة العيد في المصلى، والركوع، وقراءة القرآن، والدعاء، وبعض أجزاء الصلاة، ومما رجح منفردا، ومضموما الصوم، والاعتكاف، والتسبيح، والركوع، ونحو ذلك، فاعتقاد رجحان المساجد على غيرها، أو رجحان بعضها على بعض لا يوجب اعتقاد رجحان ضم الصلاة إليها؛ لأن اعتقاد الرجحان الشرعي يوقف على مدرك شرعي بتوقيف على مدرك شرعي، ولم يرد، بل ورد الحديث المتقدم بعد ذلك‏.‏

النوع الثالث‏:‏ الهدايا، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ علي هدي، فما نوى، وإلا فبدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة، ولو قال‏:‏ بدنة فلم يجدها فبقرة، فإن لم يجدها فسبع من الغنم، فإن لم يجد فلا يجب صوم، فإن أحب فعشرة أيام؛ لأنها بدل في دماء الحج، فإن أيسر فعل ما نذر، وإن قال لحر‏:‏ إن فعلت هذا أهديتك إلى بيت الله، فيحنث فعليه هدي قال علي رضي الله عنه‏:‏ شاة تصحيحا لتصرف المكلف بأقرب وجوه الإمكان، فإن قال‏:‏ عبد فلان، أو داره، أو شيء من ماله هدي، فحنث، فلا شيء عليه لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم‏)‏‏.‏ قال اللخمي‏:‏ قال مالك في الحج‏:‏ القائل‏:‏ علي هدي يجزئه شاة‏.‏ والمدرك‏:‏ هل ينظر إلى أعلى مراتب الهدي احتياطا، أو لأقله؛ لأن الأصل براءة الذمة كمن نذر شهرا، فقيل‏:‏ يصوم ثلاثين، وقال ابن عبد الحكم‏:‏ تسعة وعشرين، وهي قاعدة أصولية إذا علق الحكم على اسم هل يقتصر على أدناه، أو يرتفع لأعلاه، وقال ابن نافع‏:‏ لا تجزئه البقرة عند العجز؛ لأن الناس لا يعرفون البدن إلا من الإبل، وإن صدقت على البقر لغة قاله الخليل، ودليل الغنم حديث جابر نحرنا مع النبي عليه السلام البدنة عن سبع، والبقرة عن سبع‏.‏

وقال مالك أيضا‏:‏ إذا أعسر صام عشرة أيام إن قال‏:‏ علي هدي، وإن قال‏:‏ علي بدنة صام سبعين يوما، وقال أشهب‏:‏ إن أحب صام تسعين يوما، وقال أشهب‏:‏ إن أحب صام سبعين، أو أطعم سبعين مسكينا؛ لأن الكفارات لكل يوم مسكين، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ لله علي نحر جزور ينحرها مكانه، وكذلك إذا قال‏:‏ بالبصرة، وسوق البدن إلى غير مكة من الضلال، وقال أيضا‏:‏ ينحره حيث نوى لتعلق حق تلك المساكين بها‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ والحالف بصدقة ماله على بلد يتصدق به على مساكين تلك البلد، والبحث هاهنا كالبحث في إتيان غير المساجد الثلاث، وقد تقدم، والناذر هديا معينا يوفي به إن كان يبلغ سالما من العيوب، وفي ‏(‏سنن الهدى‏)‏‏:‏ ويبعث الإبل، وإن بعد الموضع، وإن لم يبلغ بيع، واشتري بثمنه من الإبل إن بلغ، أو من البقر، وإلا فمن الغنم، وإلا تصدق بالثمن عند ابن القاسم حيث شاء، وقال مالك‏:‏ يجعله فيما تحتاج إليه الكعبة قال‏:‏ والرأي أن يتصدق به بمكة، ولو شرك به في هدي لكان له وجه، ويشتري بموضع يرى أنه يبلغ أصلح، ولا يؤخر إلى موضع أعلى إلا أن يتعذر سائقه، فيؤخر الشراء إلى مكة، ثم يخرج به إلى الحل؛ لأنه شرط الهدي، وإن وجد شراء الأقل ببعض الطريق، وشراءه بمكة يوجد أفضل، اشتري الآن، وسيق إلى مكة، وإن كان الأول خمسا، أو ستا من الغنم، ووجد بثمنها بقرة اشتراها، وإن كانت ثماني فأكثر، فشراؤها أفضل من شراء البدن إن كفاها الثمن؛ لأن البدنة جعلت عن سبع، فالسبعة أفضل‏.‏

وأن نذر عبدا، أو دارا بيعت، واشترى من موضع هو أصلح‏.‏ قال أشهب‏:‏ إن نذر بدنة عوراء، أو عرجاء معينة أهداها، أو غير معينة أهدى سليمة قال‏:‏ وأرى المعين، وغيره سواء إذا قصد القربة، وإلا فهو نذر معصية، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ لله علي نحر بدنة، أو هدي ينحر بمكة، وإن قال‏:‏ جزور نحر بموضعه؛ لأنه لفظ لا يختص بمكة، وإن نوى موضعا، أو سماه لا يخرجها إليه كانت معينة، أو غير معينة، وناذر مال غيره لا شيء عليه، أو ماله يشتري بثمنه هديا، فإن بعث به اشترى بثمنه هناك، فإن لم يبلغ هديا، فأقله شاة، أو فضل عنه مالا يبلغ هديا دفع لخزنة الكعبة ينفق عليها‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن أحب تصدق به حيث شاء، وأعظم مالك أن يشرك مع الحجبة غيرهم؛ لأنها، ولاية منه عليه السلام لدفعه المفاتح إلى عثمان بن طلحة، وإن خاف على المنذور هديا عدم الوصول للبعد باعه واشترى بثمن الغنم غنما، وبثمن الإبل إبلا، وبثمن البقر بقرا، ويجوز أن يشتري بثمن البقر إبلا؛ لأنها لما بيعت صارت كالعين، وأكره شراء الغنم بثمنها حتى يعجز عن البدن، والبقر من مكة أو من موضع تصل‏.‏ وإن ابتاعها من مكة أخرجها للحل، ثم أدخلها الحرم؛ لأنه شرط الهدي، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ علي هدي إن نوى شيئا فعله، وإلا فبدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة، وقال أشهب‏:‏ أدنى ما يجزئه شاة إلا أن ينوي أفضل منها‏.‏

فرع‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ إن فعلت كذا فإني أنحر ولدي فعليه كفارة يمين قاله ابن عباس نظرا لفداء إسحاق عليه السلام، أو لأنه نذر لا مخرج له لتعذر هذا المخرج شرعا، ثم رجع مالك، فقال‏:‏ فلا شيء عليه إلا أن يريد التقرب بالهدي فيهدي، والقائل‏:‏ أنحر ولدي بين الصفا والمروة، أو بمنى فعليه الهدي؛ لأن طرق مكة، وفجاجها كلها منحر، فصار للفظه دلالة على التقرب بالهدي لكن بما لا يجوز التقرب به، فيسقط الخصوص لتعذره شرعا، ويبقى العموم سالما عن المعارض، وهو مفهوم الهدي، فيوفي به، ويلزمه في أبويه ما يلزمه بالولد‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ وكذلك الأجنبي، وقال بعض فقهائنا‏:‏ إنما يهدي في الولد إذا ذكر فعلا نحو قوله‏:‏ إن فعلت، وأما قوله‏:‏ علي نحر ولدي لله، فلا شيء عليه؛ لأنه نذر معصية قال‏:‏ والكل عندي سواء، والصواب أن لا شيء عليه إلا أن ينوي وجه الهدي، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ لو كان للحالف عدة أولاد أهدى عن كل واحد منهم هديا، وقيل‏:‏ يكفي هدي لجميعهم‏.‏

النوع الرابع‏:‏ الضحايا‏:‏ في ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ لله علي أن أضحي ببدنة لم تقم مقامها بقرة مع القدرة، وفي إخراجها مع العجز خلاف، وفي إخراج سبع من الغنم عند العجز عن بقرة خلاف، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ الإجزاء فيهما‏.‏

تنبيه‏:‏ الأصل في النذر أن لا يجزئ عنه غيره، وإن كان أفضل منه عند الله تعالى، فناذر التصدق بدرهم لا يجزئ عنه ألف، وكذلك سائر المندوبات؛ لأن النذر واجب، وفعل غيره غير واجب، وغير الواجب لا يجزئ عن الواجب خولفت هذه القاعدة في هذه المسألة المتقدمة على الخلاف، وفي ناذر الركوب يجزئه المشي، وليس منه ناذر الصلاة في المقدس، وهو بالحرمين، فإنه يصلي مكانه؛ لأن الخروج من الحرمين للصلاة في غيرهما ليس قربة، فلم ينعقد النذر في أصله؛ لأنه عوض عما وجب بالنذر‏.‏

النوع الخامس‏:‏ الرباط، ففي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ ناذر الرباط، أو الصوم بموضع إتيانه قربة كعسقلان، والإسكندرية يلزمه ذلك، وإن كان من أهل مكة، والمدينة؛ لأن الرباط فيهما للعدو، وليس فضيلة في غيرهما‏.‏ قال اللخمي‏:‏ ولو نذر المكي إتيان هذه للصلاة فقط، ويعود صلى موضعه، ولم يأتها‏.‏ وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ ولا يلزمه المشي هاهنا، وإن سماه لعدم الدليل على كونه قربة في الرباط‏.‏

النوع السادس‏:‏ الصدقة، ففي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ لله علي أن أهدي مالي، أو مالي صدقة في سبيل الله، أو أهدي، أو حلف، فحنث أجزأه الثلث، وقاله ابن حنبل، وإن سمى داراً، أو دابة، أو غيرهما أخرجه، وإن أحاط بماله، فكذلك إن سمى حرا، ولو كان أكثر من ثلاثة أرباعه ما لم يقل الكل لما في الموطأ‏:‏ أن أبا لبابة حين تاب الله عليه قال‏:‏ يا رسول الله أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأجاورك، وأنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى الرسول‏؟‏ فقال له عليه السلام‏:‏ ‏(‏يجزئك من ذلك الثلث‏)‏ فقوله - صلى الله عليه وسلم - يدل على أنه التزم الصدقة بجملة المال؛ لأن الإجزاء فرع شغل الذمة، فإذا عين شيئا أخرجه؛ لأنه يجوز أن يدخل في ملكه ما لا يعلمه بالميراث، والأصل الوفاء بالصيغة، وفي الصحيحين لا صدقة إلا عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول، فتكون الصدقة بكل المال غير مطلوبة للشرع، فلا تلزم بالنذر‏.‏

فرع‏:‏ قال صاحب ‏(‏تهذيب الطالب‏)‏‏:‏ إذا أخرج الثلث أنفق عليه من عنده كالزكاة، وقيل‏:‏ من الثلث‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ هو كذلك إن قال‏:‏ هدي، وإن قال‏:‏ صدقة، وليس بالموضع مساكين‏.‏ قال مالك‏:‏ النفقة من الثلث أيضا، ولو قال‏:‏ الثلثان، فلا خلاف أن النفقة من عنده قال‏:‏ وينبغي أن لا فرق؛ لأن من أوجب هديا، فقد أوجب على نفسه إيصاله، وروي عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ تلزمه في صدقة ماله كفارة يمين، وعن ابن مسلمة‏:‏ زكاة ماله، وقال ابن نافع‏:‏ من تصدق بمعين وهو ماله كله أخرج الثلث، وروي عن مالك‏:‏ إذا سمى أكثر من الثلث اقتصرعلى الثلث‏.‏ قال صاحب ‏(‏البيان‏)‏‏:‏ وروي عن مالك‏:‏ إن كان موسرا فالثلث، وإلا فربع عشره، أو معدما فكفارة يمين، والحالف بصدقة ما يكتسبه أبدا فيحنث، فلا شيء عليه اتفاقا، فإن قيده بمدة أو بلدة فكذلك عند ابن القاسم، وقال أيضا‏:‏ يتصدق بالثلث، وإذا قال‏:‏ كل مال أملكه إلى كذا من الأجل صدقة، فخمسة أقوال‏:‏ ثلث ما يملكه الآن، وما يملكه في المستقبل لابن عبد الحكم، وثلث ما له الآن، وجميع ما يملكه إلى ذلك الأجل لابن القاسم، وثلث ما يملك الآن فقط، وجميع ما سيملكه فقط، ولا شيء عليه مطلقا، ومنشأ الخلاف لفظ‏:‏ أملكه هل هو موضوع للحال، أو الاستقبال، أو لهما، وكله نقله النحاة، وأما إذا نذر الصدقة بجميع ما يفيده إلى مدة، أو في بلده أخرج ذلك قولا واحدا لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏أوفوا بالعقود‏)‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 1‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما أتاهم من فضله يخلوا به وتولوا وهو معرضون‏)‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 75‏)‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ وإن كان لم ينص في كتابه على الفرق بين النذر، واليمين، والوجه‏:‏ الفرق بينهما، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ قال سحنون‏:‏ عين مالا‏:‏ أن لا يخرج ما لا يضر به، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ الحالف يهدي عبده المعين، وجميع ماله يهدي المعين، وثلث باقي المال، وكذلك الصدقة، وغيرها، ولو قال‏:‏ فرسي، ومالي في سبيل الله، فليتصدق بثمن العبد في قوله صدقة، وفي السبيل يدفع الثمن لمن يغزو به من موضعه إن وجد، وإلا يبعث به، والفرس، وآلة الحرب يبعثه بعينه، فإن تعذر بعث بثمنه يجعل في مثل المبيع بخلاف ثمن الهدي يباع إذا لم يبلغ، ويشتري بثمنها إبل؛ لأن المقصود من الجميع الأكل، وأما في قوله‏:‏ صدقة، فيبيع الجميع، والسبيل هو الجهاد، والرباط‏.‏

تفريع‏:‏ قال ابن يونس‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ إذا حنث مرة أخرى قبل إخراج الثلث أخرج الثلث، وثلث الباقي، ثم قال‏:‏ يكفيه الثلث، وبالأول أخذ محمد، وأشهب‏.‏ قال مالك‏:‏ إذا حلف بصدقة ماله، ثم زاد ماله فعليه ثلث ماله يوم الحلف؛ لأنه الذي يتناوله السبب، وإن نقص فثلثه يوم حنث؛ لأنه الممكن، وإذا حنث ثم نما ماله، ثم حنث فنما ماله فعليه ثلث ماله، ثم حنث فنما ماله أخرج ثلث ما معه الآن؛ لأنه ثلث الأول وثلث الزيادات، وإن لم يزد لم يخرج إلا ثلثا واحدا، ولو حنث وماله مائة، ثم حنث وهو سبعون، ثم حنث وهو أربعون فعليه ثلث المائة إلا أن ينقص ما بيده عنه، فلا شيء عليه غير ما بيده إلا أن يذهب بإتلافه أو أكله، فيلزمه دينا عليه، ولا يضمن بالتفريط في إخراجه قاله مالك؛ لأنه كالشريك، وقال محمد‏:‏ إن كان على حنث ضمن ما ذهب بسببه، وإلا فلا، وإذا أخرج الثلث، فمن العين، والدين، وقيمة الكتابة، وإن عجز المكاتب يوما وفي قيمة رقابهم فضل أخرج ثلثه، ولا شيء في أم الولد، ولا المدبر لتعذر بيعها، وقال سحنون‏:‏ يخرج ثلث قيمة خدمتهم، فإن لم يخرج ثلثه حتى ضاع، فلا شيء عليه، فرط أم لا، وقال سحنون‏:‏ يضمن المفرط كالزكاة، والفرق للمذهب‏:‏ أن الحالف بالصدقة قيل‏:‏ لا شيء عليه، وقيل‏:‏ كفارة يمين بخلاف الزكاة، فإن لم يكن له يوم حلف مال، فلا شيء عليه فيما يتجدد لعدم تناول السبب إياه، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ في ‏(‏الواضحة‏)‏‏:‏ إن حلف فحنث وقد زاد ماله إن كانت الزيادة بمتجر، فلا يلزمه إخراج ثلثها، أو بولادة أخرج ثلثها، وثلث الأصل، والقائل‏:‏ كل ما أربحه في هذه السلعة صدقة يجري على الخلاف في قوله‏:‏ كل ما أكتسبه صدقة في مدة معينة، أو بلدة، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ القائل‏:‏ مالي في الكعبة، أو رتاجها، أو حطيمها، فلا شيء عليه؛ لأنها لا تنقض فتبنى‏.‏ والرتاج الباب، ومنه أرتج على الخطيب، والقارئ بتخفيف الجيم إذا انغلق دونه باب الكلام، فإن قال‏:‏ في كسوة الكعبة، أو طيبها دفع ثلث ماله للحجبة، وإن قال‏:‏ أضرب بمالي، أو شيء بعينه حطيم الكعبة، أو الركن فعليه حجة، أو عمرة، ولا شيء عليه في ماله؛ لأن الضرب ليس بطاعة، ويصحح لفظه بحسب الإمكان، فيحمل على الوصول إليها للقربة المعتادة قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 101‏)‏ الآية‏.‏ قال اللخمي‏:‏ قال ابن حبيب‏:‏ يتصدق بماله‏.‏

النوع السابع‏:‏ الصوم، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ الناذر الصوم يلزمه يوم، وفي لزوم التتابع في الصوم المتعدد أقوال‏:‏ ثالثها‏:‏ إن ذكر أعواما، أو شهورا جملة، أو آحادا لزمه، أو أياما فلا، ومذهب ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ عدم اللزوم مطلقا، وقال في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ وناذر الشهور المتتابعة، وغير المتتابعة له صومها بالأهلة، وبغير الأهلة، فإن صامها بالأهلة، وكان الشهر تسعة وعشرين أجزأه، أو بغير الأهلة أكمله ثلاثين، وإن صام بعض شهر، فله أن يصوم بالأهلة، ثم يكمل الأول، وناذر سنة غير معينة يصوم اثني عشر شهرا ليس فيها رمضان، ولا يوم الفطر، ولا أيام الذبح، وما صام من الأشهر فعلى الأهلة، وما أفطر فيه لعذر أتمه ثلاثين، ولو عين يوما بصوم تعين، ولو شرط التتابع لزمه‏.‏ قاله في ‏(‏الكتاب‏)‏ والقائل‏:‏ أصوم هذه السنة لم يلزمه قضاء أيام العيد، والتشريق، ورمضان إلا أن ينويه، وروي أن ناذر ذي الحجة يقضي أيام النحر إلا أن ينوي عدم القضاء، والقولان في ‏(‏المدونة‏)‏، وبالأول أخذ ابن القاسم، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يصوم في السنة المعينة آخر أيام التشريق، وما أفطره فيها لعذر، فلا قضاء عليه، وإلا قضاه، وإن أفطر شهرا لغير عذر، وكان تسعة وعشرين قضى عدد أيامه متتابعا أحب إلي، ويجب قضاء ما أفطر في السفر قال في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ لا أدري ما السفر‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ وكأنه أحب أن يقضي، وهو خلاف نقل ‏(‏الجواهر‏)‏‏.‏ وناذر سنة لا يكفيه إلا اثنا عشر شهرا، ولا يسقط رمضان، ولا العيدان، والحيض، وناذر صوم يوم يقدم فلان، فقدم ليلا يصوم صبيحة تلك الليلة‏.‏ قاله في ‏(‏الكتاب‏)‏ وقال ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل لا يصوم لفوات شرط القدوم في اليوم، وهو النهار لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فعدة من أيام أخر‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 184‏)‏، وجوابه‏:‏ أن الليلة تبع للنهار لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من صام رمضان، وأتبعه بستة من شوال‏)‏ ولم يقل‏:‏ بستة، فإن قدم نهارا‏:‏ فقال ابن القاسم في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ و‏(‏ش‏)‏، و‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا شيء عليه لتعذره عليه شرعا، وقال أشهب‏:‏ يصوم غيره؛ لأن الشرط يقتضي مشروطه بعده، والقدوم في اليوم مشترط، ولو قدم في الأيام المحرم صومها، فالمنصوص نفي القضاء لتعذره شرعا‏.‏

والقضاء فرع سبب وجود الأداء‏.‏ قال عبد الملك‏:‏ ولو علم بقدومه أول النهار، فبيت الصيام لم يجزئه لتقدمه على سبب الوجوب كالصلاة قبل الزوال، وليصم اليوم الذي يليه، ولو نذر صوم يوم قدومه أبدا لزمه إلا أن يوافق يوما محرما، فلا يقضي، وكذلك إن مرضه، وقال ابن حبيب‏:‏ يقضي في المرض أول ما يصح، ولو نذر صوم يوم سماه، فوافق يوم حيض، أو مرض لم يقضه‏.‏ قاله في ‏(‏الكتاب‏)‏ وكذلك لو كان شهرا، وقيل‏:‏ يلزمه القضاء، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ ناذر الشهر المعين يفطره متعمدا يقضي عدد أيامه متتابعات أفضل، فإن نذره متتابعا بغير علة فأفطر منه ابتدأه، وناذر صوم يوم بعينه يفطره متعمدا يقضيه، وكره مالك نذر صوم يوم لوقته، وناذر صوم الدهر يلزمه، ولا شيء عليه لأيام العيد، والحيض، ورمضان، وله الفطر بالمرض، والسفر، ولا قضاء لتعذره، وقاله ‏(‏ش‏)‏، ونذر صوم يوم العيد، أو الشك ملغى كنذر الصلاة في الأوقات المكروهة، وقاله ‏(‏ش‏)‏، وهو مذهب الكتاب‏.‏